ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

عَلى قَدْرِ الْعَقْلِ يَكُونُ الْدِّينُ

22:59 - January 27, 2024
رمز الخبر: 3494372
بیروت ـ إکنا: إن العقل يرى أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش الحياة من دون دين، وبالطبع ليس المراد من الدين هنا الشريعة التي تُقَنِّن سلوكياته وعلاقاته وحسب، بل المراد تلك العقيدة التي يلتزم بها في حياته.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "عَلى قَدْرِ الْعَقْلِ يَكُونُ الْدِّينُ".
 
الجهة الأولى: إن العقل يرى أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش الحياة من دون دين، وبالطبع ليس المراد من الدين هنا الشريعة التي تُقَنِّن سلوكياته وعلاقاته وحسب، بل المراد تلك العقيدة التي يلتزم بها في حياته، والتي تفسر له الوجود، وتحدد دوره، وتجيبه على الأسئلة الوجودية الكبرى التي تصاحبه منذ نشأته الأولى وتدوم معه إلى أن يجد لها أجوبة، ثم يتخذ من تلك الأجوبة عقيدة يعتقد بها، فينطلق في حياته على هَديها، ويصبغ سلوكياته ومواقفه بصبغتها.

والحقيقة المطلقة التي لا يمكن لأحد أن ينكرها أن ما من أحد إلا ويَدين بدين بهذا المعنى، سواء كان ديناً سماوياً أم بشرياً وضعياً، وسواء كان حقاً أم باطلاً، بل حتى ذلك الشخص الذي يعلن الإلحاد فالإلحاد عقيدته، لأنه يفَسِّر له من وجهة نظره سبب وجوده ويجيبه على أسئلته الوجودية. ومثله ذاك الذي يعلن أنه لا ديني فدينه هذا، وعليه فجميع البشر يَدينون بدين بالمعنى الذي بَيَّنته.

الجهة الثانية: إن العقل لا يمكنه أن يقبل ديناً غير صحيح ولا يتصف بالحق، والمراد من العقل هنا ليس العقل الفردي الشخصي بل المراد به ما يؤمن به العقل النوعي العام من مُسَلَّمات وما يُصدره من أحكام تُصنَّف بأنها من الضرورات العقلية التي لا ينكرها إلا الجاهل، مثل ضرورة أن لكل مَعلول عِلَّة، ولكل أثَرٍ مُؤَثِّر، وأن الفقير بالذات يحتاج إلى الغني بالذات، وأن النقيضين لا يجتمعان، وأن الواحد أقل من الإثنين، وهكذا في بقية الضرورات العقلية.

فالعقل يطلب الحق ولا يقبل الباطل، ولا يستقِرُّ ولا يطمئن إلا إذا عرف الحق، والحق لا يتعدَّد ولا يتكثَّر، ومُحال أن يتعدَّد، الحق واحد والباطل كثير، ولو تعدد الحق لبطل الوجود كله، وما نجده من كثرة مُدّعي الحق رغم التناقض بينهم لا يعني التعدد الحقيقي الواقعي، ولو تحاور البشر فيما بينهم حواراً جاداً لعرفوا الحق.

نعم هنا أمر لا بد من إلفات النظر إليه وهو: إنَّ علينا أن نفرِّق بين معرفة الحق حقاً وبين اعتقاد الشخص بأنه على الحق وإن كان على الباطل واقعاً، فإذا نشأ اعتقاده من مقدمات عقلية سليمة فأوصلته إلى القطع بأنه على الحق رغم أنه على باطل واقعاً فهو معذور من وجهة نظر العقل، لكن كونه معذوراً لا يجعل الباطل واقعاً حقاً واقعاً. 

والنتيجة التي نخلص إليها هي: كلما كمُل العقل كانت قدرة المرء على معرفة الدين الحق أقوى لأن العقل لا يقبل إلا الدين الحق الذي سيكون موجِّها لمسيرة الشخص في الحياة كلها، بل في كل العوالم التي يؤمن بأنه سيعبرها أو يستقر فيها، ولأن العقل ثانياً يرفض الأفكار المسبقة، وتقليد الآباء والأجداد، والاستسلام لمعتقد البيئة الاجتماعية إذا كان باطلاً، والتأثُّر بالمشاعر والعواطف، وهي جميعاً تصدُّ الشخص عن معرفة الدين الحق، أو تمنعه من التدين به وإن كان قد اهتدى إليه.  

الجهة الثالثة: إن الدين الحق وما يتضمنه من عقيدة وشريعة متوافق مع أحكام العقل الكلية ولا يمكن بحال من الأحوال أن يتناقض معها، إن الدين سيما الإسلام عندما يقول بوجود الله وأنه خالق الكون ومدبِّره فالعقل يؤمن بذلك إيماناً قاطعاً إذ يستحيل في نظر الحق أن يوجَد الكون من تلقاء نفسه ومن غير مُوجد، وحين يقول الدين بأن لوجود الكون والإنسان غاية فالعقل يلتزم بذلك قطعاً، وحين يقول الدين إن بعد الحياة الدنيا حياة أخرى فالعقل يلتزم بذلك أيضاً، وهكذا سائر ما تتضمنه العقيدة الدينية من أصول وفروع، ولو عرضنا شريعة الإسلام على العقل لوجدناها متوافقة مع أحكامه الكلية توافقاً منقطع النظير، ولا مجال في هذه المقالة إلى عرض هذا الانسجام الرائع.
 
وبناءً على ما تقدم يتضح لنا معنى جوهرة الإمام (ع) "عَلى قَدْرِ الْعَقْلِ يَكُونُ الْدِّينُ" فكلما زاد عقل الرجل زاد إيمانه ونما التزامه الديني لأنه سيكون أقدر على فهم الدين وفهم مقاصده وأهدافه، وأقدر على الإبحار فيه واستخراج جواهره ولئالئه.
 
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:

twitter

captcha